التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقهى الصعاليك في القدس



انتقل شراب قهوة البن إلى أوربا من دمشق وحلب واستانبول في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي فشرب في بادئ الأمر في قصور الملوك والأمراء ، ثم انتشر في المدن والعواصم وافتتحت أماكن لشربها عرفت بالمقاهي اتخذها الأدباء والشعراء والفلاسفة والفنانون ملاذا ً لاجتماعاتهم ولعقد ندواتهم ومجالسهم الأدبية والثقافية والفنية ، ومن أشهر المقاهي الأدبية في أوربا مقاهي العاصمة الفرنسية باريس التي تقع في أحياء المونبارناس والشانزيلزيه واللاتيني والسان جرمان وكان يرتادها الأدباء والشعراء والفلاسفة أمثال سارتر وبوفوار والبير كاموا .

أما في العواصم العربية فقد انتشرت المقاهي الأدبية منذ بدايات القرن العشرين واشتهرت مجالسها وندواتها الأدبية والفكرية كمقاهي بغداد وبيروت وعمان وتونس ، وأشهرها المقاهي التي افتتحت في العاصمة المصرية القاهرة حيث عرف مقهى ( متاليا ) الذي كان قبلة الأدباء والشعراء أمثال إبراهيم المويلحي وحافظ إبراهيم والعقاد والإمام العبد وحفني ناصيف ، ومقهى (الفيشاوي) الذي ارتاده مشاهير الأدباء كالروائي نجيب محفوظ ، وفي العاصمة السورية دمشق اشتهر العديد من المقاهي الأدبية كمقهى الكمال والعربي والجسر الأبيض والهافانا والبرازيل وكان يرتادها الأدباء والشعراء والصحفيون والمفكرون أمثال أحمد الصافي النجفي والجواهري ونزار قباني وعبد السلام العجيلي وصدقي إسماعيل وزكي الأرسوزي وسعيد الجزائري ، أما في القدس فقد اشتهر مقهى أدبي قديم وعريق هو (مقهى المختار) الذي عرف فيما بعد بمقهى الصعاليك ، وبمناسبة احتفالية القدس كعاصمة للثقافة العربية لعام 2009 نتحدث فيما يلي عن نشأة مقهى ( المختار) الصعاليك ، ورواده ومجالسه وطرائفه .

- نشأة مقهى المختار:

يذكر ( واصف جوهرية ) في مذكراته عددا ً من المقاهي التي تأسست في مدينة القدس منذ فترة إعلان الدستورعام 1908 وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 منها مقهى المختار الذي أنشأه عيسى بن ميشيل الطبة وكان يقع على سطح مصرف (كريديت ليوني) خارج باب الخليل ، ومن أشهر رواده الشاعر والمربي والصحفي والمناضل خليل السكاكيني ( 1878-1953) العائد من الولايات المتحدة سنة 1908 والذي عمل محررا ً في مجلة الأصمعي وجريدة القدس ، ومن رواده أيضا َ الصحفي يوسف العيسى (1870-1948) أحد مؤسسي جريدة فلسطين في يافا وجريدة ألف باء في دمشق عام 1920 ، ويعقوب فراج ، والشاعر الصحفي عيسى داود العيسى (1880-1950) مؤسس جريدة فلسطين ، والصحفي عادل جبر( 1885-1953) صاحب جريدة الحياة المقدسية ، والشاعر اللبناني رشيد نخلة (1873-1939) المنفي إلى القدس منذ عام 1913 من قبل جمال باشا السفاح قائد الجيش العثماني الرابع في سورية بسبب ما كان يخشاه من شعوره القومي .

- انتقال المقهى :

بعد انتخاب عيسى الطبة مختارا ً لطائفة الروم الارثوذوكس في القدس سنة 1918 قرر البحث عن مكان جديد يتسع لمقهى ومكتب ٍ ًله وبعد مدة قصيرة وجد مكانا ً مناسبا ًعند باب الخليل على مقربة من السور الجنوبي لمدينة القدس ، وكان هذا المكان في السابق محطة استراحة للحجاج الاورثوذكس الوافدين من روسيا وقبرص واليونان للمشاركة في احتفالات عيد الفصح التي كانت تقام في الأماكن المقدسة في فلسطين كل عام ، وفي هذه المدة (1917- 1918) كان خليل السكاكيني معتقلا ً من قبل السلطات العثمانية بتهمة إيواء أحد الأجانب الأمريكيين الذين كانت السلطات قد طلبت منهم تسليم أنفسهم خلال 24 ساعة ومن لا يسلم نفسه يعتبر جاسوسا ً وقد تخلف أحد الشباب ولم يجد من يأويه فالتجأ إلى منزل السكاكيني فأخفاه عنده معتقدا ً أنه يطبق روح تاريخنا وأدبنا العربي في إجارة المستجير وإغاثة المستغيث ، وبعد أن عرف العثمانيون مكان الأمريكي الهارب اعتقلوا السكاكيني وساقوه إلى أريحا ومنها إلى السلط فعمان ثم نقلوه بالقطار إلى دمشق وأودعوه في أحد معتقلات العثمانيين في دمشق وهو سجن جامع المعلق وبعد أن أمضى مدة شهرين ونصف أفرج عنه بكفالة مالية وأجبر على الإقامة في دمشق وبعد عشرة أشهر قرر الهرب مع مجموعة من الرجال للالتحاق بالثورة العربية التي أعلنها الشريف حسين ، وعنده وصوله إلى بلدة ( القريا ) مسقط رأس سلطان باشا الأطرش وضع السكاكيني نشيد ا ً وطنيا ً أصبح نشيدا ً للثورة العربية ، ثم تابع مسيره مع رفاقه عبر الصحراء حتى وصلوا إلى منطقة (أبي اللسن) مكان وجود الأمير فيصل بن الحسين قائد الجيش الشمالي ، ومنها توجه السكاكيني إلى مصر عن طريق العقبة لكن السلطات الانكليزية منعته من دخول فلسطين فأقام في القاهرة نحو شهرين حتى تمكن من العودة إلى القدس في مطلع عام 1919.

- مجالس السكاكيني :

فور وصول السكاكيني إلى القدس استقبل من قبل أصدقائه بالحفاوة والتكريم ثم ذهب إلى مقهى المختار وعند وصوله وجد المختار عيسى الطبة متخذا ً زاوية المقهى مكتبا ً له وأمامه منضدة تكدست عليها ملفاته الخاصة والعديد من الصحف المحلية والخارجية فرحب به المختار وكانت تربطه بالسكاكيني صداقة قوية مذ كان في أمريكا سنة 1907 ، وكان اهتمامهما المشترك هو العمل على تعريب الكنيسة الاورثوذكسية ، وكان المختار الطبة شغوفا ً بالكتابة ويشاطر السكاكيني اهتماماته الأدبية والصحفية فكان يحرر في صحيفة تكتب باليد عرفت باسم ( الأحلام ) التي صدرت في أيلول 1908 ، وبعد عودة السكاكيني إلى المقهى عادت الاجتماعات والمجالس والندوات الأدبية الدورية والتي عرفت بـ ( حلقة الأربعاء ) وكان من روادها الصحفي عيسى العيسى ، وابن عمه داود ، وإسعاف النشاشيبي وعادل جبر، ونخلة زريق ، وإسحق موسى الحسيني ، وكان يشارك في الندوات عدد من الضيوف من الشعراء والأدباء العرب الذين يفدون على القدس عرف منهم الشاعر خليل مطران وأحمد زكي باشا ، ومن رواد الندوات والمجالس الأدبية التي كانت تعقد في ذلك المقهى عدد من رجالات السياسة العرب المنفيين إلى فلسطين من قبل السلطات الفرنسية أو اللاجئين إليها بعد انهيار الحكومة العربية التي أنشأها الملك فيصل بن الحسين خلال عامي 1918- 1920 كان منهم المفكر والمناضل الوطني اللبناني علي ناصر الدين ، وفي فترة لاحقة انضم إليهم رفيق الحسيني وانطاس حنانيا وايجور فراج بالإضافة إلى عدد من المحامين والأطباء والتجار المهتمين بالأدب والثقافة .

- تأسيس حزب الصعاليك :

كانت تلك المجموعة هي النواة التي شكلت حزب الصعاليك .وأطلق عليها خليل السكاكيني لقب شلة الصعاليك ، وفي سنة 1919 أسسوا معا ً حزبا ً خاصا ً بهم أطلقوا عليه حزب الصعاليك وقد ظهر على الملأ سنة 1921 كما يذكر الأستاذ سليم تماري ، وذلك عندما أراد نادي بيت لحم تكريم السكاكيني تقديرا ً لمساهمته التربوية والأدبية فوجهوا إليه دعوى للحضور فرد عليهم السكاكيني بإرسال اعتذار عملا ً بالأصول المتبعة لدى حزب الصعاليك .

- دستور الصعاليك :

اكتمل دستور حزب الصعاليك في 7 تموز 1925 ونشره السكاكيني وتضمن مبادئ عامة بالإضافة إلى فرمان ملزم يتقيد أعضاء الشلة به ، أما المبادئ فعددها ثمانية عشر فيها الدعابة وفيها الجدية و ينص المبدأ الأول على أن كل الناس من رجال ونساء أعضاء في هذا الحزب رضوا بذلك أم لم يرضوا ، إلا من خرج عن مبادئه ، ولا رئيس لهذا الحزب ولا سكرتير ولا أمين صندوق ولا نادي ، ويتلاقى أعضاؤه في الحياة فيتعارفون فيتآلفون ، وكل صعلوك لصعلوك نسيب ، أما المبدأ الثاني فينص على أن لا يقيم هذا الحزب حفلات استقبال أو حفلات وداع ولا يقبل الدعوة إليها ، ولا يجيبون غيرهم أي لا يطلبون لغيرهم طلبات ، ولا يقبلون من أحد أن يجيبهم .

- طرائف الفرمان :

تحدث خليل السكاكبني في كتابه ( ما تيسر) عن طرفة حصلت لأحد أعضاء حزب الصعاليك ، هو علي ناصر الدين الذي كانت فرنسا قد نفته إلى القدس ثم عادت فسمحت له بالعودة إلى بلده لبنان ، وقد زوده السكاكيني بفرمان يجيزه أن يمثلهم هناك فوقع هذا الفرمان في يد جريدة فلسطين فنشرته ، وما إن وصل ناصر الدين إلى بيروت حتى اعتقلته السلطات الفرنسية ونفته إلى جزيرة ( أرواد ) بدعوى أنه ينتمي إلى حزب الصعاليك ، وقد حاول ناصر الدين إقناع السلطات الفرنسية أن هذا الفرمان ليس إلا دعابة فلم يقتنعوا وزج في السجن وبعد وضوح الأمر أفرجت عنه السلطات الفرنسية .

- انقطاع السكاكيني عن المقهى :

في عام دعي السكاكيني من قبل الجمعية الأرثوذوكسية في القاهرة لتسلم إدارة ( المدرسة العبيدية ) ، وبعد عامين عاد إلى القدس ومارس الصحافة وأخذ يكتب المقالات في كبريات الصحف والمجلات المصرية ، وبعدها عين السكاكيني في وظيفة مفتش عام للتربية في فلسطين ، أدت كل هذه الأعمال والوظائف إلى انشغاله وانقطاعه عن مقهى الصعاليك ، وقد عبر عن حزنه لهذا الانقطاع في رسالة أرسلها لأحد أصدقائه في مصر جاء فيها : (( سيكون الغد آخر عهدي بعصر البطالة وأنه لعصر لو تعلم جميل .. ستقفر غدا ً قهوة الصعاليك ستتقوض مجالسنا التي كنا نجتمع فيها كأنجم الثريا سيسأل الإخوان .. إخوان الصفا عني فلا يجدوني .. )) .

- أفول مقهى الصعاليك :

لم يكن انقطاع السكاكيني عن المقهى هو السبب الرئيسي في أفول نجم المقهى ، ولكن كانت هناك أسباب وعوامل أخرى ساعدت في ذلك ذكرها الأستاذ سليم تماري في طليعتها انتقال معظم الصحف والمجلات إلى يافا وحيفا مما أدى إلى انقطاع رواد المقهى الذين كانوا يعملون في تلك الصحف ، والسبب الأخر هو انهماك الحلقات الفكرية المقدسية في الانخراط في الأحزاب السياسية الوطنية أو في السياسات البلدية في المدينة .

خاصة ، ويحدثنا الأستاذ إبراهيم قندلفت عن مزايا وعراقة مقهى الصعاليك قائلا َ : (( تعال معي إلى مقهى الصعاليك ، مقهى المختار الذي تخرج منه الأدباء والشعراء والوزراء .. كانت مضافة السكاكيني في القدس ، مقهى عريق في قدمه ، وفريد في نوعه وجوه ورواده .. يخيم عليه جو شاعري خيالي ، ندوة الشعراء والصحفيين )) ، ونأمل من العاملين على احتفالية القدس كعاصمة للثقافة العربية لعام 2009 تكريم رجالات الوطنية والفكر والثقافة والأدب الفلسطينيين والمقدسيين خاصة الذين ساهموا في الحركة الثقافية والفكرية والوطنية لمدينة القدس الحبيبة .

المراجع :

- يوسف أيوب حداد : خليل السكاكيني حياته – مواقفه – وآثاره – بيروت 1981.

- جيرار جورج ليميز : مقاهي الشرق – القاهرة 1991

- سليم تماري : مقهى الصعاليك وإمارة البطالة المقدسية – مجلة الدراسات الفلسطينية – بيروت

العدد 57- شتاء، بقلم بشار منافيخي 2009-02-22

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مهرجان التسوق": نابلس حققت قصب السبق ..... بقلـم: صلاح هنية

كان رتل الـمركبات شبه متواصل من حوارة إلى مدخل نابلس صباح السبت، ولـم تخف حركة السير على الشارع الرئيس من رام الله إلى نابلس... يوم السبت، باختصار هو أن أكبر سدر كنافة سيدخل موسوعة (غينيس) وسيتم إنجازه في نابلس على الدوار ضمن فعاليات مهرجان نابلس للتسوق. الـمبادرة بحد ذاتها تستحق الثناء؛ كونها جاءت في الـمكان الـمناسب؛ نابلس العاصمة الاقتصادية الـمحاصرة والـمعزولة منذ العام 0002، وهي أساس بالإمكان البناء عليه في الأعوام الـمقبلة. الاهم ان الـمشهد على مدخل نابلس الرئيس بداية شارع القدس بات مختلفاً، حيث ازدان، الاسبوع الـماضي، بلوحات اعلانية لـمنتجات غير فلسطينية إلى جانب اعلانات الترويج للـمهرجان، الدعوات توالت خصوصاً من "الراصد الاقتصادي" إلى محافظ نابلس بهذا الخصوص علـماً أن معظم الشركات الفلسطينية راعية للـمهرجان ولا تستحق الا الدعم والاسناد على فعلها الاقتصادي هذا، وهذه نقطة تسجل لنابلس، ومحافظها وفعالياتها. الاستجابة كانت سريعة فاستبدلت بإعلانات للـمنتجات الفلسطينية التي دعمت ودعت إلى مهرجان نابلس للتسوق، ومن الواضح ان موقف الـمحافظ هو الذي ادى لهذه النتيجة الطيبة، وترك آ

صلاح هنية: ‏إصرار على مكافحة الفساد الغذائي

رتفع كل فترة صرخات المستهلكين الفلسطينيين ضد الأغذية الفاسدة، والمنتجات المهربة من المستوطنات. ويؤكد رئيس جميعة حماية المستهلك الفلسطيني صلاح هنية على محاربة هذه الظواهر، لافتاً الى وجود الكثير من المعوقات وهذا نص المقابلة: *هل من غطاء قانوني للمستهلك الفلسطيني؟ يتمتع المستهلك الفلسطيني بحقوق حمائية، إذ يتم تطبيق قانون حماية مستهلك عصري يحمل ‏الرقم 21 لعام 2005، ويغطي بشمولية قضايا المستهلك المحورية. وتتمثل هذه القضايا بضرورة إشهار الأسعار، ومحاربة الغبن ‏التجاري والغش والتلاعب بالأسعار والأغذية والسلع. وينظم القانون آلية حماية المواطنين، من خلال تأسيس جمعية ‏حماية المستهلك، والمجلس الفلسطيني لحماية المستهلك، ويتيح للجمعيات رفع قضايا نيابة عن المستهلك دون أي ‏حاجة لتوكيل كونها جمعيات تمثيلية، ويركز على قضايا تنسيقية بين الجمعية والقطاع العام‎.‎ والجانب الثاني الإيجابي، ورغم حداثة عمر جمعية حماية المستهلك الفلسطيني، ورغم ضعف مواردها المالية إلا أنها ‏استطاعت تحقيق إنجازات، واستطاعت الضغط والتأثير على العديد من القرارات الحكومية بما يضمن حقوق المستهلكين. ‎*لكن، هل القانون والج