تلقيت ضمن بريدي الشخصي الأربعاء الماضي، عددا من (مجلة الكلية الإبراهيمية بالقدس)، فأعادني هذا العبير الى واحد وعشرين عاماً مضت، يوم كنت خريجا حديث التخرج من جامعة بيرزيت، وذهبت الى الكلية الابراهيمية في القدس لإجراء مقابلة للحصول على وظيفة فيها، وكان لقائي الأول مع المربي والفنان نهاد أبو غربية رئيس الكلية ومؤسسها، يومها كنت أعرف مسبقاً أنني ألتقي شخصا مجربا في حقل التربية والسياسة والإدارة، حاورني يومها وكان يمتلك تصورا واضحا عن الدور الذي يريدني أن أقوم به (مديرا لشؤون الطلبة)، وكان يتحدث عن المواهب وعن الاستثمار في الإنسان وتنمية توجهاته الايجابية لنحقق للمجتمع مخرجات مميزة، وبعد انخراطي في العمل كان يكلفني بالمزيد من المهام بدءا من العلاقات العامة مروراً بالإشراف على كل المطبوعات التي تصدر عن الكلية، الى تنظيم النشاطات الرسمية في الكلية، وكنت يوميا أحلق مفتخراً بما أنجز لأن رجلا مجربا مثل الأستاذ نهاد أبو غربية تولاني بالتوجيه والإسناد.
ما أجمل تلك الأيام التي حملت في طياتها متغيرات أساسية على منحى حياتي، في ساعات الصباح تستقل السرفيس صوب القدس، تصحو مع صحوتها الجميلة وتشم رائحة كعكها وزعترها، وصحن الحمص الشهي، ومن ثم الى مكان عملي في الكلية الابراهيمية في الصوانة. وهناك يقابلني الأستاذ نهاد بابتسامة عريضة ليعزز انطلاقتي صوب العمل، وبعدها لا بد من حكاية من التاريخ تشكل زاداً للحاضر، ومن ثم يدعوني الى مكتبه ليطلعني على آخر إنجازاته في الخط العربي الذي امتاز به، فزيّن جدران الكلية بلوحات الخط العربي، ولا بد من توجيهات بمنح الأولوية بشكل أساسي للطلبة الذين هم جوهر وأساس العملية التعليمية التربوية.
لم يكن منظّراً بل كان عمليا واقعياً لم يتحدث يوما واحدا عن نظريات بناء المؤسسات ولا "المدرسة صديقة الطفل"، ولكنه عمل بصدق وإخلاص لإيجاد نموذج يجمع بين البناء المؤهل لكلية ومدرسة، وروضة أطفال عصرية وحديثة منفردة بمدخلها وملعبها وقاعاتها، ودروس للموسيقى وكورال يشدو بنشيد الكلية، وتجهيزات كاملة من مختبرات وحاسوب ووسائل تعليمية سمعية وبصرية، الى مكتبة كان يوليها عنايته الخاصة، حريصا على أن تكون في واجهة المكان يصلها الضوء الطبيعي ويحرص على عملية التزويد فيها، لم يبخل عليها يوما بمجلة أو نشرة أو كتاب أو موسوعة، وظل يأخذ بيد الطلبة المتفوقين ضمن نظام منح متكامل ومدروس، وكان حريصا على حقوق العاملين في الكلية وتوفير مستوى رواتب منافس، بحيث يستقطب الكفاءات المميزة.
أعادت مجلة الكلية شريطاً واسعاً من الذكريات التي أعتز بها، ذكريات جميلة وسعيدة، وألماً في القلب على فاجعة فقدان الصديق العزيز والأخ الحبيب وجدي نهاد أبو غربية الذي كان سندا حقيقيا لي خلال الفترة العملية كلها في الكلية، كان حريصا على ان أكون أكثر الموظفين تميزا أنا وصديقنا منير قليبو، فكان يوفر لنا كل الإمكانات من أجل التميز، ما جعلنا نشعر أننا في بيتنا بكل بالمعاني والمعايير، كان يطرق باب الأمديست ليس من أجله بل من أجلنا، وكذلك الحال مع المجلس الثقافي البريطاني.
الكلية الإبراهيمية باختصار تؤرخ تجربتها لمسيرة التعليم في القدس، ويمثل رئيسها جيلا وهب حياته لصالح مسيرة العلم والتعليم والتأسيس لمؤسسات تربوية عصرية في القدس، والتي ظلت منارات في قلب المدينة تعكس بعدا حضارياً مميزاً، لقد تأسست الابراهيمية في العام 1931، وبلغ عدد خريجي الثانوية العامة منذ التأسيس لغاية اليوم عشرة آلاف خريج، وبلغ عدد خريجي كلية المجتمع الابراهيمية 1753 حيث بوشر التدريس فيها العام 1983.
عميد التربية والتعليم في القدس...
قد أبدو منحازاً ولا حرج في الأمر، رغم أنني وفي ولست منحازاً للحظات أعتبرها الأكثر أهمية في حياتي العملية، أدعو المؤسسات المقدسية بعد أن منحت الدكتور أمين الخطيب لقب عميد العمل الاجتماعي ان تسير على ذات النهج وترسخ هذا التقليد، ولتعمد الى منح الأستاذ نهاد أبو غربية عميد التربية والتعليم في القدس، وإذا كان الأمر يحتاج الى تزكية، فإن عشرة آلاف خريج من الابراهيمية يساندهم كل من درس وعمل في هذه الكلية، معهم كل من خبروه وعملوا الى جانبه في ميدان العمل التطوعي في القدس، وهو عمليا عميد دون أن يقلد وسام العمادة لأنه يستحقه عن جدارة، ولعل الصرح العلمي الذي شيده في القدس سيخلده في سجل العاملين من أجل وطنهم وشعبهم ومسيرة التعليم في القدس، لكن العمادة قضية معنوية ليست أكثر، وتقديراً منا لجيل عمل بجد وإخلاص وترك بصماته على أرض الواقع.
كل الحب لكليتي ونقطة انطلاقي في حياتي العملية، والشكر للبريد الذي حمل لي مجلة أعادتني لذكريات جميلة، وفاتحة الكتاب أطيرها لروح صديقي وجدي أبو غربية وفاء وحبا.
تعليقات